فصل: فصل في حكم (بيع الطعام):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في حكم (بيع الطعام):

حاصل حكمه أن بيع الطعام بالطعام بالتأخير ممتنع مطلقاً وهو قوله:
البَيْعُ لِلطَّعام بالطَّعَامِ ** دون تناجُزٍ مِنَ الْحَرَامِ

(البيع للطعام بالطعام) حال كونه (دون تناجز من الحرام) كيف ما كان متماثلاً أو متفاضلاً ربوياً كقمح بفول أو شعير، أو غير ربوي كتفاح بمشمش، أو أحدهما كقمح بمشمش لحرمة ربا النساء فيه مطلقاً، ومفهوم قوله: دون تناجز أنه إذا كان يداً بيد فإما أن يكون جنساً واحداً أو جنسين، وفي كل إما مثلاً بمثل أم لا. فالجنس الواحد مثلاً بمثل كمد من قمح بمثله أو بمد من شعير هو قوله:
والبَيْعُ لِلصِّنْفِ بِصِنْفِهِ وَرَدْ ** مِثْلاً بِمِثْلٍ مُقْتَضَى يَداً بِيَدْ

(والبيع) مبتدأ (للصنف بصنفه) يتعلقان بقوله (ورد) خبر أي ورد جوازه حال كونه (مثلاً بمثل) وحال كونه (مقتضى يداً بيد) لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، ومفهوم مثلاً بمثل أنه يمنع التفاضل فيه، وهو معنى قوله بعد: والجنس بالجنس تفاضلاً منع إلخ. لكن محل المنع إن كان مقتاتاً مدخراً وإلا فهو قوله: وغير مقتات ولا مدخر إلخ. ومفهوم قوله هنا بصنفه أنه مع اختلاف صنفه يجوز وهو معنى قوله: وفي اختلاف الجنس بالإطلاق إلخ. ومعنى الإطلاق فيه سواء كان مثلاً بمثل أم لا. كان مقتاتاً مدخراً أم لا. ربوياً أم لا. وبهذا التقرير ينتفي التداخل والتكرار في كلام الناظم فقوله هاهنا: مقتضى يداً بيد هو موضوع هذا البيت والأبيات الثلاثة بعده. أعني قوله: والجنس بالجنس إلى قوله: باتفاق، وحينئذ فكأنه يقول: فإن لم يكن دون تناجز بل كان مقتضى يداً بيد فإن كان صنفاً بصنفه مثلاً بمثل جاز، وإن كان ليس مثلاً بمثل امتنع بشرط الاقتيات والادخار، وإن كان صنفاً بغير صنفه جاز مطلقاً مثلاً بمثل أم لا. مدخراً مقتاتاً أم لا غير أن حقه أن يسقط قوله مع الإنجاز لأنه موضوع الأبيات الأربعة كما ترى كما أن حقه يؤخر عنها قوله:
والبَيْعُ لِلطَّعام قَبْل القَبْضِ ** مُمْتَنِعٌ ما لَمْ يَكُنْ عنْ قَرْضِ

(والبيع للطعام) ربوي كقمح وشعير وزيت ولبن أو غيره كتفاح ورمان (قبل القبض) له بكيل أو وزن أو عد حيث اشترى على ذلك أو أخذ في صداق أو خلع أو في صلح عن دم عمداً، وفي كراء دابة أو في رزق قاض أو جند أو إمام مسجد أو مؤذن أو مدرس ونحو ذلك. فكل ذلك (ممتنع) لا يجوز بيعه قبل قبضه بكيل ونحوه لا ممن هو عليه ولا من غيره، وسواء كان معيناً أو مضموناً في الذمة كطعام السلم لا إن وجب للمرأة في نفقتها أو نفقة أولادها فيجوز لها أن تبيعه قبل أن تقبضه من زوجها بكيل ونحوه، ولا إن اشترى جزافاً لأنه مقبوض بنفس العقد وليس فيه حق توفية، ولا إن أخذ عن طعام مستهلك عمداً أو خطأ فيجوز أيضاً (ما لم يكن) الطعام ترتب (عن قرض) وأحرى من هبة أو صدقة فيجوز لمن تسلف طعاماً أن يبيعه قبل أن يقبضه من مقرضه، ثم لا يبيعه مشتريه حتى يستوفيه لأن ضابط المنع أن يتوالى عقدتا بيع لم يتخللهما قبض، وكذا يجوز لمن اشترى طعاماً أن يسلفه لغيره قبل أن يقبضه هو من الذي باعه له ولكن لا يبيعه لمتسلفه ولا لغيره إلا بعد قبضه، وكذا يجوز لمن اشتراه أيضاً أن يقضي به طعاماً في ذمته قبل أن يقبضه من البائع أيضاً ولا يبيعه المقتضي له إلا بعد قبضه لئلا يتوالى عقدتا بيع لا قبض بينهما كما مرّ. وهذه التي قبلها ليستا من البيع قبل القبض بل من السلف قبل القبض أو القضاء قبل القبض وكذا يجوز لمن سلف لغيره طعاماً أن يبيعه قبل قبضه من المتسلف، فهذه الفروع الأربعة لا يشمل كلام الناظم منها إلا الأولى والرابعة، وأما الطعام الهبة والصدقة فلا إشكال في جواز بيعهما قبل قبضهما من المواهب والمتصدق ثم لا يبيعه مشتريه إلا بعد قبضه أيضاً، وحيث جاز البيع قبل القبض فيما ذكر فلابد من تعجيل الثمن لئلا يؤدي لبيع الدين بالدين وتجوز الإقالة والتولية والشركة في الطعام قبل قبضه لأنها معروف فاغتفر فيها ذلك.
ثم رجع الناظم لإتمام أقسام بيع الطعام مشيراً لمفهوم مثلاً بمثل في البيت الثاني فقال:
والجِنْسُ بالجِنْسِ تَفَاضُلاً مُنِعْ ** حَيْثُ اقْتِيَاتٌ وَادِّخَارٌ يجْتَمِعْ

(والجنس بالجنس) أي وبيع الجنس بجنسه أي بصنفه كقمح بشعير لا مثلاً بمثل بل (تفاضلاً) كمد قمح بمدين من الشعير (منع حيث اقتيات) وهو أن تقوم به البنية أي عنده لا به (وادخار) وهو أن يحبس ولا يفسد لمدة حدها بعضهم بستة أشهر فأكثر (يجتمع) خبر عن اقتيات وادخار، وأفرد الضمير باعتبار ما ذكر، والجملة في محل جر بإضافة حيث إليها وجوابها محذوف للدلالة عليها أي منع بيع الجنس بجنسه متفاضلاً حيث اقتيات وادخار يجتمعان فيه فيمنع.
وغَيْرُ مُقْتَاتٍ ولا مُدَّخَرِ ** يجُوزُ مَعْ تَفاضُلٍ كَالْخُضَرِ

(وغير مقتات ولا مدخر) كمشماش وقثاء أو مقتات غير مدخر كلفت أو مدخر غير مقتات كلوز وجوز، وأما التين فهو مقتات مدخر على المذهب ولو لم ييبس خلافاً لما في (خ) من عدم ربويته (يجوز) بيعه (مع تفاضل) اتحد الجنس كقنطار من تفاح بقنطارين منه وأحرى لو اختلف (كالخضر) من قثاء ونحوها بمشماش.
وفي اخْتِلاَفِ الجِنْسِ بالإِطْلاَقِ ** جَازَ مَعَ الإنْجَازِ باتِّفَاقِ

(وفي اختلاف الجنس بالإطلاق) يتعلقان بقوله: (جاز مع الإنجاز باتفاق) أي: وجاز التفاضل في اختلاف الجنس مطلقاً من غير تقييد بربوي ولا غيره بشرط المناجزة لأن المناجزة هي موضوع هذه الأبيات كما مرّ تحصيله في البيت الثاني، وإنما جاز مع اختلاف الجنس لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يداً بيد). قال العلماء: لما نص عليه الصلاة والسلام على الأربعة المسماة في الحديث، أضاف العلماء إليها ما كان في معناها على ما فهموا من خطابه وعللوها بأنها مقتاتة مدخرة للعيش غالباً فنصه (صلى الله عليه وسلم) على البر والشعير تنبيه على كل مقتات مدخر كالذرة والدخن والأرز والسمسم والقطاني كلها كالفول والعدس واللوبيا وكرسنة والحمص، وكل واحد من هذه الأفراد جنس على حدته ما عدا القمح والشعير فهما جنس واحد على المشهور، وكذلك الأدم كلها كاللحوم والخلول والألبان والزيوت والرب كل واحد جنس على حدته، وكذا البصل والثوم لهما حكم المقتات المدخر وكل منهما جنس على حدته، ونصه عليه الصلاة والسلام على التمر تنبيه منه على كل حلاوة مقتاتة مدخرة للعيش غالباً فيلحق به التين والزبيب والعسل والسكر، وما في معناها:
وكل واحد جنس على حدته ونصه عليه الصلاة والسلام على الملح تنبيه على مصلح الطعام المقتات فيلحق به التوابل من فلفل وكزبرة وكراوياء وأنيسون وهو المسمى بحبة الحلاوة عندنا وشمار كسحاب وكمونين ونحوها.
وَبَيْعُ مَعْلُومٍ بما قَدْ جُهِلاَ ** مِنْ جِنْسِهِ تَزَابُنٌ لَنْ يُقْبَلاَ

(وبيع) شيء (معلوم) قدره بكيل أو وزن أو عدد (بما) أي شيء (قد جهلا) قدره ومبلغه (من جنسه) أي من جنس المبيع به (تزابن) أي يسمى بذلك (لن يقبلا) شرعاً أي لا يجوز ولو كان يداً بيد مأخوذ من الزبن بمعنى المخاطرة أو بمعنى الدفع لأن كلاً من المتعاقدين يخاطر صاحبه أو يدافعه عن مراده ويعتقد أنه الغالب ومنه الزبانية لدفعهم الكفار في النار، وإذا امتنع بيع المعلوم بالمجهول فأحرى بيع المجهول بالمجهول. وفي صحيح مسلم، نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المزابنة وهي بيع العنب بالزبيب كيلاً. المازري: المزابنة عندنا بيع معلوم بمجهول أو مجهول من جنس واحد. ابن عرفة: يبطل عكسه بيع الشيء بما يخرج منه ويكون في الربوي وغيره إلخ. فمن المزابنة في الربوي بيع الرطب باليابس كشراء رطب تمر أو تين أو عنب في شجره بيابس من جنس كل كيلاً لأن الرطب مجهول قدره إذ لا يدري قدره بعد يبسه هل هو قدر كيل التمر اليابس أو التين اليابس أو الزبيب أو أقل أو أكثر، ومنها أيضاً بيع زرع قائم أو محصود بكيل من البر أو زيتون في شجره بكيل من الزيتون رطباً أو جافاً، ومنها في غير الربا بيع قنطار من مشماش بصبرة منه غير معلومة الوزن أو بما في رؤوس شجره لأنه وإن جاز فيه التفاضل لكن منع لما فيه من الغرر والمخاطرة والمغالبة، ولذا إذا كثر أحدهما كثرة بينة بحيث لا يشك أحد أن أحد الجهتين أكثر جاز لانتفاء الغرر والمخاطرة، ومنها في غير المطعومين بيع قنطار من كتان أو حرير بكتان أو حرير مجهولي الوزن إلا أن يكثر أحدهما كثرة بينة كما مر في الذي قبله، ومنها أيضاً سلم الشيء فيما يخرج منه كسلم حديد في سيف أو شعر في غزله ولو كانا معلومين وزناً، وكذا سلم حب في دهنه ولو علما، وبهذا اعترض ابن عرفة على المازري بأن حده للمزابنة غير جامع إذ لا يشمل بيع الشيء بما يخرج منه مع أنه مزابنة، وعدم شموله إنما هو من جهة أن بيع الشيء بما يخرج منه لا يتقيد بكونهما مجهولين أو مجهول أحدهما، بل يمتنع ذلك، ولو علما كما مر، ومفهوم قول الناظم من جنسه إنما هو بغير جنسه جائز وهو كذلك فيجوز بيع العنب بيابس التمر صبرة، وكذا بيع صبرة تفاح بصبرة مشماش مثلاً لكن بشرط المناجزة كما تقدم لامتناع النساء فيهما، ويجوز أيضاً بيع قنطار من صوف بشيء من الحرير مجهول الوزن بالمناجزة أو التأخير (خ) عاطفاً على المنهي عنه: وكمزابنة مجهول بمعلوم أو مجهول من جنسه وجاز إن كثر أحدهما في غير ربوي قال (م): فلو زاد الناظم بعد هذا البيت:
كذاك مجهول بمجهول عدا ** إن كثر الفضل فلا منع بدا

وسلم الشيء بشيء يخرج ** منه تزابن وذاك المنهج

لوفى بيع مجهول بمجهول أو بما يخرج منه.
قلت: والذي ينبغي التنصيص عليه هاهنا هو بيع الشيء بما يخرج منه، وأما المجهول فقدم ما يفيد عدم جوازه في أول الباب إذ من شرط صحة البيع مطلقاً علم عوضه.